فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سبب النزول:

قال القرطبي:
روى الأئمة واللفظ لمسلم عن جابر ابن عبد الله قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دُبرِها في قُبِلُها كان الولدُ أحول؛ فنزلت الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} زاد في رواية عن الزّهريّ: إن شاء مُجَبِّية وإن شاء غير مُجَبِّيةٍ غير إن ذلك في صمامٍ واحد. ويُروى: في سمام واحد بالسين؛ قاله الترمذيُّ. وروى البخاريّ عن نافعٍ قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغَ منه؛ فأخذت عليه يومًا؛ فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكانٍ قال: أتدري فيم أنزلت؟ قلت: لا قال: نَزلت في كذا وكذا؛ ثم مضى. وعن عبد الصمد قال: حدثني أبي قال حدّثني أيوب عن نافع عن ابن عمرَ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال: يأتيها في. قال الحُميدي: يعني الفرج. وروى أبو داود عن ابن عباسٍ قال: إن ابن عمر والله يُغفر له وهِم؛ إنما كان هذا الحيُّ من الأنصار، وهُم أهل وثنٍ، مع هذا الحيِّ من يهود، وهم أهل كتاب: وكانوا يرون لهم فضلًا عليهم في العلم؛ فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألاّ يأتوا النساء إلا على حرف؛ وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيُّ من قريش يَشْرَحون النساءَ شَرْحًا منكرًا؛ ويتلذذون منهنّ مُقْبِلاتٍ ومدبراتٍ ومستلقياتٍ؛ فلما قدم المهاجرون المدينةَ تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار؛ فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نُؤتى على حرفٍ! فاصْنع ذلك وإلا فاجتنبني؛ حتى شَري أمرُهما؟ فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله عز وجل: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}؛ أي مقبلاتٍ ومدبراتٍ ومستلقياتٍ، يعني بذلك موضع الولد. وروى الترمذيّ عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكتُ! قال: «وما أهلك» قال: حوّلت رحلى الليلة؛ قال: فلم يُردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا؛ قال: فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} «أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ واتَّقِ الدُّبُرَ والحَيْضَةَ» قال: هذا حديث حسن صحيح. وروى النَّسائي عن أبي النَّضْر أنه قال لنافع مولَى ابن عمر: قد أَكثر عليك القولُ. إنك تقول عن ابن عمر: أنه أفتى بأن يُؤتَى النساء في أدبارهنّ. قال نافع: لقد كذبوا عليّ! ولكن سأُخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمَر عَرض عليّ المصحفَ يومًا وأنا عنده حتى بلغ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}؛ قال نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نُجَبِّي النساءَ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهنّ ما كنا نريد من نسائنا؛ فإذا هنّ قد كرِهن ذلك وأعظمنه، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهنّ؛ فأنزل الله سبحانه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكم} هذه الجملة تذييل ثان لجملة: {فأتوهن من حيث أمركم الله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} [البقرة: 222] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا إنها لبلادُهم وتعتبر جملة: {نساؤكم حرث} مقدِّمة لجملة: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة. اهـ.

.قال الفخر:

ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها، فقوله: {أنى شِئْتُمْ} محمول على ذلك، ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن، وسائر الناس كذبوا نافعًا في هذه الرواية، وهذا قول مالك، واختيار السيد المرتضى من الشيعة، والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، وحجة من قال: إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه:
الحجة الأولى: أن الله تعالى قال في آية المحيض: {قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء فِي المحيض} [البقرة: 222] جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه وهاهنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر فإذا كانت تلك العلة قائمة هاهنا وجب حصول الحرمة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] وظاهر الأمر للوجوب، ولا يمكن أن يقال: إنه يفيد وجوب إتيانهن لأن ذلك غير واجب، فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ثم هذا غير محمول على الدبر، لأن ذلك بالإجماع غير واجب فتعين أن يكون محمولًا على القبل، وذلك هو المطلوب.
الحجة الثالثة: روى خزيمة بن ثابت أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حلال، فلما ولى الرجل دعاه فقال: كيف قلت في أي الخربتين، أو في أي الخرزتين، أو في أي الخصفتين، أو من قبلها في قبلها فنعم، أمن دبرها في قبلها فنعم، أمن دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق: لا تؤتوا النساء في أدبارهن» وأراد بخربتها مسلكها، وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها، والخرزة هي التي يثقبها الخراز، كنى به عن المأتي، وكذلك الخصفة من قولهم: خصفت الجلد إذا خرزته، حجة من قال بالجواز وجوه:
الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية من وجهين الأول: أنه تعالى جعل الحرث اسمًا للمرأة فقال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين، فلما قال بعده: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم فيكون هذا إطلاقًا في إتيانهن على جميع الوجوه، فيدخل فيه محل النزاع.
الوجه الثاني: أن كلمة {أَنّى} معناها أين، قال الله تعالى: {أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} [ال عمران: 37] والتقدير: من أين لك هذا فصار تقدير الآية: فأتوا حرثكم أين شئتم وكلمة: أين شئتم، تدل على تعدد الأمكنة: اجلس أين شئت ويكون هذا تخييرًا بين الأمكنة.
إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها، أو من دبرها في قبلها لأن على هذا التقدير المكان واحد، والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان، واللفظ اللائق به أن يقال: اذهبوا إليه كيف شئتم فلما لم يكن المذكور هاهنا لفظة: كيف، بل لفظة {أَنّى} ويثبت أن لفظة {أَنّى} مشعرة بالتخيير بين الأمكنة، ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه.
الحجة الثانية: لهم: التمسك بعموم قوله تعالى: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون: 6] ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع، فوجب أن يبقى معمولًا به في حق النسوان.
الحجة الثالثة: توافقنا على أنه لو قال للمرأة: دبرك على حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقًا، وهذا يقتضي كون دبرها حلالًا له، هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب.
أجاب الأولون فقالوا: الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتي وجوه الأول: أن الحرث اسم لموضع الحراثة، ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعًا للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة، ويقتضي هذا الدليل أن لايطلق لفظ الحرث على ذات المرأة إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} لأن الله تعالى صرح هاهنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة، فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه، وهذه الصورة مفقودة في قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} فوجب حمل الحرث هاهنا على موضع الحراثة على التعيين، فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتي.
الوجه الثاني: في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين أحدهما: قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] والثاني: قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعًا بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد، والأصل أنه لا يجوز.
الوجه الثالث: الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها، وسبب نزول الآية لا يكون خارجًا عن الآية فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة، ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه، وعند هذا نبحث عن الوجوه التي تمسكوا بها على التفصيل.
أما الوجه الأول: فقد بينا أن قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} معناه: فأتوه موضع الحرث.
وأما الثاني: فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ذلك الموضع المعين لم يكن حمل {أنى شِئْتُمْ} على التخيير في مكان، وعند هذا يضمر فيه زيادة، وهي أن يكون المراد من {أنى شِئْتُمْ} فيضمر لفظة: من، لا يقال ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته، والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز، حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول: بل هذا أولى، لأن الأصل في الأبضاع الحرمة.
وأما الثالث: فجوابه: أن قوله: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون: 6] عام، ودلائلنا خاصة، والخاص مقدم على العام.
وأما الرابع: فجوابه: أن قوله: دبرك على حرام، إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق، لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة، فصار ذلك كقوله: يدك طالق، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أنى شِئْتُمْ} معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمّة الفتوى: من أيّ وجهٍ شئتم مقبلة ومدبرة؛ كما ذكرنا آنفًا. وأَنَّى تجيء سؤالًا وإخبارًا عن أمرٍ له جهات؛ فهو أعمّ في اللغة من كيف ومن أين ومن متى؛ هذا هو الاستعمال العربي في أَنَّى. وقد فسر الناس أنى في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسّرها سيبويه بكيف ومن أين باجتماعهما. وذهبت فرقة ممن فسّرها بأين إلى أن الوطء في الدّبر مباح؛ وممن نسب إليه هذا القول: سعيدُ بنُ المسيّب ونافعُ وابن عمرَ ومحمد بن كعبٍ القُرَظيّ وعبد الملك بن الماجشون، وحُكي ذلك عن مالكٍ في كتاب له يسمى كتاب السر. وحذّاق أصحابِ مالكٍ ومشايخهم يُنكرون ذلك الكتاب؛ ومالكٌ أجلُّ من أن يكون له كتابُ سِرٍّ. ووقع هذا القول في العُتْبِيّة. وذكر ابن العربيّ أن ابن شعبان أسند جواز هذا القولِ إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين، وإلى مالكٍ من روايات كثيرة في كتاب جماع النّسوان وأحكام القرآن. وقال الكِيَا الطبريّ: وروي عن محمد بن كعب القُرَظِيّ أنه كان لا يرى بذلك بأسًا؛ ويتأوّل فيه قول الله عزّ وجلّ: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165، 166] وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم؛ ولو لم يُبح مثلُ ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخَر مِثلًا له؛ حتى يُقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح. قال الكِيَا: وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربُّكم من أزواجكم مما فيه تسكينُ شهوتكم؛ ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعًا؛ فيجوز التوبيخ على هذا المعنى. وفي قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] مع قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ما يدل على أن المَأْتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد.
قلت: هذا هو الحقّ في المسألة. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر أن العلماء لم يختلفوا في الرَّتْقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب تُردَّ به؛ إلاَّ شيئًا جاء عن عمرَ بنِ عبد العزيز من وجهٍ ليس بالقويّ أنه لا تردّ الرتقاء ولا غيرُها؛ والفقهاء كلُّهم على خلاف ذلك، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدُّبُر ليس بموضع وطء، ولو كان موضعًا للوطء ما رُدّت من لا يُوصَل إلى وطئها في الفرج. وفي إجماعهم أيضًا على أن العقِيم التي لا تلد لا ترد. والصحيح في هذه المسألة ما بيّناه. وما نسب إلى مالكٍ وأصحابِه من هذا باطل وهم مُبَرَّءون من ذلك؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث؛ لقوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ}؛ ولأن الحكمة في خلق الأزواج بثّ النّسل؛ فغير موضع النسل لا يناله مِلْك النكاح، وهذا هو الحقّ. وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائطَ الذكر سواء في الحكم؛ ولأن القَذَر والأذَى في موضع النجو أكثرُ من دمِ الحيض، فكان أشنع. وأما صِمَام البول فغير صمام الرَّحِم. وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخرُ الإسلام أبو بكر محمدُ بنُ أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين؛ وأخرج يده عاقدًا بها. وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذَّكَر والفرج ما اشتملت عليه الخمسةُ؛ وقد حرّم الله تعالى الفرجَ حال الحيِض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرُم الدّبُر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعليّ بن زياد لما أخبراه أن ناسًا بمصر يتحدّثون عنه أنه يجيز ذلك؛ فنفر من ذلك؛ وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا عليّ، كذبوا عَلَيّ، كذبوا عَلَيّ! ثم قال: ألستم قومًا عَرَبًا؟ ألم يقل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}؟ وهل يكون الحرث إلاَّ في موضع المنبِت! وما استدل به المخالف من أنّ قوله عزّ وجلّ: {أنى شِئْتُمْ} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديثَ صحيحةٍ حسانٍ وشهيرةٍ رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًا بمُتُون مختلفة؛ كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار؛ ذكرها أحمد بنُ حنبل في مسنده، وأبو داود والنَّسَائيُّ والترمذيُّ وغيرُهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزيّ بطرقها في جزء سماه تحريم المحل المكروه. ولشيخنا أبي العباس أيضًا في ذلك جزء سماه إظهارُ إدبار، من أجاز الوطء في الأدبار. قلت: وهذا هو الحقّ المتَّبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يُعرِّج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، وقد حُذِّرنا من زَلّة العالم.
وقد رُوي عن ابن عمر خلافُ هذا، وتكفيرُ مَن فعله؛ وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذّب نافعٌ من أخبر عنه بذلك؛ كما ذكر النَّسائيّ، وقد تقدّم. وأنكر ذلك مالكٌ واستعظمه، وكذّب من نسب ذلك إليه. وروى الدارِمِيّ أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحُبَاب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجوارى حين أحمض بهنّ؟ قال: وما التَّحْميض؟ فذكرت له الدُّبُر؛ فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وأسند عن خزيمةَ بن ثابت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس إن الله لا يستحي من الحقّ لا تأتوا النساء في أعجازهنّ» ومثله عن عليّ بن طَلْق. وأسند عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى امرأة في دُبُرِها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة» وروى أبو داود الطّيالِسِيّ في مسنده عن قتَادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تلك اللوطية الصغرى» يعني إتيان المرأة في دبرها. ورُوي عن طاوس أنه قال: كان بدء عمل قومِ لوطٍ إتيان النساء في أدبارهنّ. قال ابن المنذر؛ وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغني به عما سواه. اهـ.